صورة تتحدث عن ذاتها

أخرجت الصورة الأولى فأنكسر أحد الأقفال عن درج الذاكرة الذي اعتراه الغبار، هناك حيث كنت أحاول انتشال بعض أشلاء الذكرى الممزقة، أو ربما كانت تتسارع هي من تلقاء ذاتها لتهرب من ذاك الدرج الذي تكدس بها في غفلة من الزمن.

أخرجت بقية الصور ، بينما تناوبتني الأحاسيس التي لا يمكن وصفها بمفردة واحدة ، فلا هي بنشوة ، و لا هي بحزن ، و لا هي باكتئاب أو سرور أو توهان ، بل هي مزيج من هذا كله ، ضربوه في خلاط حتى امتزج و لم يعد من الممكن فصله.

فسارعت للنظر لعيني بالمرآة لأرى شبح الابتسامة الذي غادرها، بعدما أدمنت على إلقاء نور بؤبؤي إلى تلك الصور المشبعة بالألوان الدسمة بالألم الذي يتخلله بعض الأمل بأن تحيى زيتونة الأرض و يعود شريط الذكرى.

إن لهذه الصور لمسات غريبة رهيبة من أيدي الواقع التي ما تركت زقاقا من هذه البلاد إلا و ضمته ، و بعد كل ضمة تطلق العنان لأحاسيسها مواسية لها ، لترسم نفسها على قطع قماش أو على صفحات ورقية فتتخذ أملا جديدا في محو ما يختلج شطآنها من أوجاع و حسرات.

في ذاك الدرج تقطن العديد من الصور، حتى صار أشبه بمجتمع لهذه السلالة من الصور التي عاشت في القديم، و هذا القديم ليس بغابر الأزمان ، إنما هو الماضي القريب.

هذه الصور قد عاشت في تلك الفترات ، لكنها على عكس أي مخلوق حي فهي لم تنقرض بل ما زالت خالدة للآن ، كل صورة تخزن بداخلها ، و بين معابر الريشة التي فيضت الكم الهائل من الأحاسيس الجياشة ، معان تميزها عن الأخرى ، لجميعها أصداء تصطدم بجدران القلوب ، لجميعها أضيفت بعض توابل الألوان لتطفي على مذاقها نكهة خاصة , إلا تلك الورقة التي قد علا ثراها طفل في عمر الزهور حافيا ، عاقدا يداه خلف ظهره ، موجها رأسه إلى ذاك المكان المجهول جغرافيا.

قد زاد منظر هذا الطفل الذي خطته الخصلات النحيلة من شعر القلم انهيار أبنية قلبي التي شيدتها و الزمن ، قد زاد من صوت دوي الرعد في دماغي ، و أرسلت من سمائه شحنات برق خاطفة غرزت بسهامها بين ذرات فؤادي المتلاصقة حتى تمكنت من تفكيكها .

فازدادت أفكاري و اكتظت ساعات يومي بالتفكير، و لم أعد أحتمل جهلي تجاه هذه الشخصية، فسارعت لسؤالها عن هويتها مناشدة لها:

من أنتَ أيها الطفل ، يا من حاصر الغبار ثيابه ، نعم أنتَ يا أيها الفتى الرث الثياب , يا من واقفا شابكا ذراعيه خلف ظهره ، أنتِ أيتها الصورة الراقدة بين أحضاني من تكونين ، فقد تسببت بزلزال أوشك على ابتلاع مساحات شاسعة من مخازن الطاقة التي زودتني بحب الحياة .

ما زلت سنين طويلة قابعة في هذا الدرج تعانقين زواياه، ألم يحن الوقت ليطول به شعرك الأشعث ، و إلى متى ستبقين ابنة هذه السنين ؟ ، لمَ لا تديرين وجهك نحوي ؟ سنين عدة قد أقمتيها بين أرجاء هذه الصفحة و لم تديري وجهك نحو أي متمعن بك ، فلماذا ؟!



أجابتني الصورة بصوت خافت قد إنجلت من نغماته المحلقة بعض الندوب من إغتيال الطفولة و الفرحة ، قائلة لي :

أنا أدعى حنظلة ولدتني كوارث النكبة التي ما زالت تبني أعشاشها على غصن كل شجرة زيتون ، أبي فكر مهموم ترعرع في دماغ العلي ، إخوتي لا أعلم شيئا عنهم سوى أن أختي الصغيرة قد أطلق عليها من بندقية الأسماء فاطمة .



قد قال ابي في بادئ الأمر أنت فلسطيني الهوية ، لكن إمتداد حلقات سلاسل المجازر الصدئة إلى الوطن العربي بأسره زاد من تطور وعيي فأصبح لي أفق قومي ثم أفق كوني إنساني فحبذت ألا أتجنس و أن أبقى عربيا فقط .



سمعت وصية أبي بعد أن قاموا بإغتياله ، و بعد أن طارت روحه إلى أعالي السماء ، فقد خط أبي في وصيته قائلا لي:

أن أظل له ذخرا ، و أن أكون له رمزا ، و أن أبقى شاهد عيان على أحوال الدنيا ...



قررت إلتزام الوصية و عدم الإخلاف بها رغم صعوبتها ، فقد سميت بحنظلة لأكون المرارة بعينها .



كم أحن لتلك الأوقات حين كان أبي يعود بي بقلمه كل صباح و مساء إلى حيفا ليلامس النور كل زقاق فيها فينعكس إلى عيني فيرسمها لها .



كان قلمه أبيض و أسود ، أبيض كقلوب الناس البيضاء و أسود كوجوه القتلة .



أما زلتِ تتساءلين لمَ لا أدر وجهي !!!



"يتبع..."

بوركت جهودك نوور

جعللك الله ذخرا للوطن

منتظرة باقي الموضوع