علاقة الإخفاء بالمعنى:
من المناسب أن نذكر بأن معنى الإخفاء هو الستر.
آيات الإخفاء:
1- قوله سبحانه وتعالى: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم }[45]
الإخفاء في ثلاثة مواضع:
أ- نون ساكنة بعدها جيم في ( أنْ جاءكم )
ب-نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم )
ت-نون ساكنة بعدها ذال في ( لينْذركم )
معنى الآية: يذكر نوح عليه السلام الأمور التي يتعجّب منها قومه وينكرونها، وهي مجيء ذكر من الله، ثم أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم، ثم إنذار هذا الرجل لهم.
يقول الفخر الرازي: ( أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف، والتكليف لا منفعة فيه للمعبود كونه متعالياً على النفع والضر، ولا منفعة فيه للعابد.
ثم وإن جوّزوا التكليف إلا أنهم قالوا: ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه، ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. ثم إذا كان لابد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى، لأن مهابتهم أشد وطهارتهم أكمل، فهذه الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين )[46]
ألا ترى أن الإخفاء جاء في المعاني التي خفت على القوم، فعلى مجيء الذكر من الله خافية عليهم، ثم علّة أن يأتي هذا الذكر على رجل منهم خافية عليهم أيضاً، ثم علّة إنذارهم لهم خافية عنهم كذلك فتأمّل ذلك تجده كما ذكرت.
ومثلها قول هود عليه السلام لقومه [47].
2- قوله سبحانه وتعالى: { أتجادلونني في أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم }[48]
الإخفاء هنا في:
أ- تنوين بعده سين في ( أسماءٍ سميتموها )
ب-نون ساكنة بعدها تاء في ( أنْتم )
إن من يعبد أصناماً من دون الله يعد كافراً، والكفر: التغطية والستر. قال ابن منظور: ( كفر الشيء: غطاه وستره )[49]
فكأنّ عبادة هذه الأصنام ( غطّت على القلب بزيادة الكفر )[50] فأخفته وسترته.
أخفاه وستره عن رؤية الحقيقة وهي بطلان عبادته وخفاء مشروعيّتها، فالخفاء ناسب الإخفاء.
3- ومنها قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: { وما قوم لوطٍ منكم ببعيد }[51]
الإخفاء في موضعين:
أ- نون ساكنة بعدها كاف في ( منْكم )
ب-ميم ساكنة بعدها باء في ( منكم ببعيد )
يقول المفسّرون في معنى الآية: إن شعيباً عليه السلام أراد تذكير قومه بما حدث لقوم لوط الذين كانوا قريبين منهم، لكنه لم يحدد وجه القرب،هل هو قرب مكاني أو زماني أو عملي [52]
أي أن وجه التقارب خفي، فلا ندري هل القرب مقصود هو قرب مكانهم منهم، أو قرب زمانهم، أو قرب أعمالهم من بعضهم من حيث كفرهم بالله والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم.
ثم لعلّ هنالك معنىً آخر في من خلال النظر في الآية حيث نجد أن شعيباً عليه السلام ذكر قوم نوح وقوم هود وقوم صالح في قوله: { ويا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح }[53]
وهنا مواطن إظهار في جميعها، فلما وصل إلى قوم لوط جاء الإخفاء { وما قوم لوط منكم ببعيد }
وعلّة ذلك – فيما أعتقد – هو ظهور آثار ما حل بقوم نوح وقوم هود وقوم صالح، بينما اختفت آثار قوم لوط، لأننا نعلم أن الله جعل عليهم الأرض عاليها سافلها، أي أخفاهم وأخفى آثارهم من على وجه الأرض، والله أعلم.
4- قوله سبحانه وتعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّركم }[54]
الإخفاء في التنوين بعد فاء في ( قليلاً فكثركم )
أي قلّة يقصد ؟ هل قلّة العدد ؟ أم قلّة المال ؟ أم قلة النسل ؟
قيل: ( قليلاً عددكم )[55]. وقيل: ( كنتم فقراء فأغناكم )[56]، وقيل: ( تيسير قوّة التناسل ). إذاً نوع القلّة خافية هنا.
ثم إنّ القلّة في العدد أو المال تجعل الإنسان يتخفّى من الظهور، أو أنه يكون خافياً عن الأنظار لا يؤبه له، أما كثير المال كثير العدد فإنه لا يكون خافياً بل ظاهراً معروفاً.
5- وقوله تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون }[57]
الإخفاء في التنوين بعده تاء في ( آيةٍ تعبثون ).
لقد كان قوم هود عليه السلام يبنون في كل مكان مرتفع علماً، لا لغرض السكنى ولا لغرض الاستهداء به، وإنما عبثاً منهم يبنونها.
فعلّة بناء هذه الآيات والعلامات المرتفعة خافية، والغرض منها غير معروف.
هذه شواهد جمعناها لنبرهن على أن هناك علاقة بين الإخفاء بوصفه حكماً تجويدياً يختصّ بأصوات القرآن، وبين المعنى العام للآية. إلا أن الأمر لايزال خاضعاً للبحث والدراسة والتأمل.